كان شعار اللا حرب واللا سلم، الذى رفعته القيادة السياسية المصرية في الـ 6 من أكتوبر، لغزًا ظلت الاستخبارات الغربية تدرسه لسنوات طويلة، بعد أن نجح الجيش المصرى في إرباك العدو وخداعه استراتيجيًا، بعد أن صورت للعدو، أنها لم تفكر في الحرب، لكن المفاجئة، أسكتت الجميع، بعد أن حطم المصريون الأسطورة الإسرائيلية وانتصروا في حرب أكتوبر.

وظلت حرب أكتوبر 1973 من الحروب التي يتحدث عنها التاريخ لفترة طويلة كونها كانت ملحمة عسكرية مصرية متكاملة الأركان، لقد فرضت المعجزة المصرية نفسها حينذاك على كل وسائل الإعلام الدولية عامة والأمريكية خاصة رغم انحياز واشنطن الواضح لإسرائيل، لكن الانحياز لم يتحمل هول صدمة المفاجأة، فتصدر نصر أكتوبر عناوين مختلف وسائل الإعلام، كما علق العديد من قادة العالم على الحرب، وتبارى الأدباء فى تسجيل مراحل الحرب المختلفة ونتائجها وكواليسها، وبدأت الجهات الاستخباراتية الأجنبية دراسة انتصار مصر في الحرب.

كما بدأت جميع مراكز الأبحاث العلمية العسكرية ومراكز الدراسات الاستراتيجية فى العالم تدرس نتائج هذه الحرب وتأثيرها فى تغيير المفاهيم العسكرية، وإمكانية تطويرها، فضلا عن أساليب القتال، وأنظمة التسليح وتطوير المعدات العسكرية.

تقارير إخبارية تشير إلى أنه وفى يوليو 1972 اجتمع الرئيس الراحل أنور السادات، في مبنى المخابرات العامة وبصحبته قائد الجيش ومستشار الرئيسِ للأمن القومي ورئيسِ المخابرات العسكرية لأكثر من 5 ساعات، تم خلال هذا الاجتماع الطارئ، تكليف المخابرات العامة برئاسة المشير أحمد إسماعيل الذى تم تعيينُه لاحقاً بعد وضع الخطة الرئاسية ليتولى تنفيذهَا على أرضِ الواقع بالتعاونِ مع أجهزة الدولة كافة.

وتوزعت محاور خطةِ الخداعِ الاستراتيجي الخاصة بحربِ أكتوبر، وشملت الجانب الإعلامي والاقتصادي والسياسي، فعلى سبيل المثال أنه تم تسريب معلومات للجانب الإسرائيلي، مفاداها أن مصر ستبدأ إجراءَ مناوراتٍ شاملة وليس حرباً في الفترة من 1 وحتى 7 أكتوبر.

وفى صباح يوم الحرب يوم 6 أكتوبر شوهد الجنود وهم في حالة استرخاء وخمول يقضون وقتهم في مص القصب وأكلِ البرتقال وقبل ذلك بيوم اجتمع وزير الخارجية الأمريكي وقتَها، بنظيرهِ المصري الدكتور محمد حسن الزيات ليتبادلا الحديثَ حولَ مبادرةِ السلام التي كان الأول بصددِ التفكيِر فيها بعدَ الانتخاباتِ التشريعيةِ في إسرائيل.

الحرب التي انتصر فيها المصريون، كانت محل إعجاب العالم، حيث أجرى حلف شمال الأطلسي “الناتو” دراسة للحرب بهدف استخلاص الدروس تحسبا لاندلاع صراع عسكري مع دول حلف وارسو في ذلك الوقت، بقيادة الاتحاد السوفييتي، على المسرح الأوروبي، وكلفت قيادة الناتو لمنطقة وسط أوروبا، التي كانت تحت رئاسة بريطانيا ومقرها ألمانيا، وإدارة الاستخبارات في المنطقة نفسها بإجراء الدراسة بحسب هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي فى أكتوبر 2021.

واستخلصت الاستخبارات ما وصفته بدروس استراتيجية رئيسية من دراستها لحرب أكتوبر 73، وقالت نتائج الدراسة إن هذه الدروس تتعلق بشكل عام بالمراحل الافتتاحية للحرب.

واعتبرت الدراسة أن خطة الخداع التي طبقتها القيادة المصرية كانت دقيقة وحققت أهدافها الرئيسية. وأرجعت هذا الإنجاز إلى الحفاظ على مستوى التكتم على الخطة.

وقالت إن قيمة المفاجأة ظهرت مرة أخرى بوضوح وتحققت باستخدام خطة خداع مفصلة مدروسة، والتأمين الصارم ضروري بما يضمن السرية شرط لنجاح خطة من هذا النوع.

وساقت الدراسة الاستخباراتية التقصير الاستخباراتي الإسرائيلي مثالا آخر على نجاح الخطة المصرية، الأمر الذي كان له تأثيره على ميدان الحرب، وقالت إنه يبدو أن التغطية الاستخباراتية الإسرائيلية للجبهتين السياسية والعسكرية كانت ضعيفة بما سمح للقادة المحليين بمنح إجازة “يوم كيبور” لوحدات الخطوط الأمامية”.

كما تشير وثائق الأرشيف الأمريكي المجمعة من مكتبة الرئيس ريتشارد نيكسون والبيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية -إضافة لوكالة الاستخبارات المركزية- إلى تأثير هذه الحرب وبشكل جوهري على العلاقات الدولية، ليس فقط من خلال اختبار متانة الانفراج في العلاقات بين الاتحاد السوفياتي سابقا والولايات المتحدة، ولكن أيضا من خلال إجبار الأخيرة على وضع الصراع العربي الإسرائيلي على رأس أجندة سياستها الخارجية.

ودفعت تبعات الحرب المباشرة، وعلى رأسها خطر عدم الاستقرار الإقليمي، وأزمات الطاقة، وتوتر علاقات القوتين العظميين، لجعل الدور العملي الأمريكي بالمنطقة أمرا لا مفر منه في حسابات صانعي السياسة بالبيت الأبيض.

وتوفر المواد الأرشيفية الأميركية التي رفعت عنها السرية خلال السنوات الأخيرة، والتي تُقدر بآلاف الوثائق- معلومات مهمة وتفاصيل دقيقة حول السياسات والتصورات والقرارات الأمريكية خلال أيام حرب أكتوبر.

كما تتطرق هذه الوثائق لزوايا مهمة على شاكلة الأهداف المصرية والسورية، وعلاقات القوى العظمى مع الأطراف المتحاربة، وإخفاقات الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، ودور موسكو وواشنطن في تصعيد القتال وتخفيفه، وتأثير شخصيات رئيسية مثل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر والرئيس المصري أنور السادات.

وعكست الوثائق الأميركية التي رفعت عنها السرية، فشل الاستخبارات الأميركية في إدراك التهديد الوشيك للحرب، ووفق مسؤول الاستخبارات بالخارجية راي كلاين والذى قال “كانت الصعوبة التي واجهناها جزئيا أننا تعرضنا لغسيل دماغ من قبل الإسرائيليين الذين غسلوا أدمغة أنفسهم”.

كما شملت التقارير الحالة الأولية من الارتباك في مجتمع الاستخبارات الأميركي فور وقوع القتال، وقرارات كيسنجر المبكرة بتقديم مساعدات عسكرية لإسرائيل، وفي الوقت ذاته البقاء على اتصال مع القادة العرب، لتعظيم النفوذ الدبلوماسي الأميركي، وصدمة كيسنجر ورفضه اتباع تعليمات نيكسون بالتنسيق المشترك مع الاتحاد السوفياتي لفرض تسوية سلمية.