مع تصاعد الحديث عن الردّ الإسرائيلي المُحتمَل على الهجوم الصاروخي الذي شنّته إيران مطلع أكتوبر الجاري، تترقب الأوساط الإسرائيلية مآلات ذلك التصعيد، واحتمالات نشوب حرب شاملة تعم منطقة الشرق الأوسط، وبينما ينقسم الرأي العام على طبيعة الردّ على طهران، ترتفع أصوات الصقور في الساحة السياسية الإسرائيلية بضرورة انتهاج أعلى مستويات التصعيد، باستهداف المنشآت النووية الإيرانية، وسط تقارير دولية من قُرب تحول طهران لقوة نووية ثانية في الشرق الأوسط.
وتأسيسًا على ما سبق، يتناول التحليل التالي رؤية الداخل الإسرائيلي لحدود التهديد الإيراني، ومدى قدرة تل أبيب على استعادة الردع في مواجهة طهران ومحورها الإقليمي، وأولويات تلك المواجهة.
أولويات التصعيد
يتبنى الداخل الإسرائيلي لهجة تصعيدية مع إيران رغم تزايد المخاوف من اندلاع حرب شاملة في المنطقة، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
(*) حسم الصراع مع إيران: تُجْمِع تصريحات ومواقف قادة الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف وزعماء الأحزاب المعارضة على أهمية حسم الصراع مع إيران، وتصفية التهديد الذي تمثله على “وجود إسرائيل”، وعلى نطاق واسع جرى توظيف الهجوم الصاروخي في السجال السياسي الداخلي، إذ اقترح نتنياهو يوم الاثنين 7 أكتوبر 2024 مسمى “حرب القيامة” بدلًا من عملية “السيوف الحديدية”، باعتبارها حربًا وجودية تضاهي في أهميتها تأسيس الدولة وليست عملية عسكرية، وكان نتنياهو وجّه رسالة للشعب الإيراني باللغة الإنجليزية في 30 سبتمبر الماضي، أشار فيها إلى أنّ “إسرائيل تقف معكم”. وفي تلويح بتهديد النظام الإيراني أشار نتنياهو إلى أن إيران قد تصبح حرة “وسوف تأتي تلك اللحظة أسرع كثيرًا مما يعتقد الناس”.
ويتفق مع تصريحات نتنياهو وزير المالية وزعيم حزب الصهيونية الدينية “بتسلئيل سموتريتش” الذي أشار إلى 4 أهداف رئيسية للحرب الحالية، من بينها القضاء على النظام الإيراني ومشروعه النووي، وهو الموقف الذي شدد عليه قادة بالمعارضة، من بينهم رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت، وزعيم حزب إسرائيل بيتنا أفيجدور ليبرمان، الذي زعم أن إسرائيل قادرة على ضرب البرنامج النووي بمفردها، ويجب عليها فعل ذلك؛ لأن إيران ليست الأولوية الأولى على أجندة الولايات المتحدة، بينما دعا زعيم حزب “يش عتيد” يائير لابيد لقصف منشآت نفطية إيرانية رغم الرفض الأمريكي.
(*) الشارع الإسرائيلي: يتفق الجمهور اليهودي وخاصة المؤيد لليمين واليمين المتطرف وجانب من النخب العسكرية والإعلامية على أهمية مواجهة إيران وتقويض قدرتها على استهداف العمق الإسرائيلي، بينما يظلون منقسمين حول التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل بشأن الضربة المحتملة، ففي استطلاع أجرته “جيويش نيوز سنديكت” في 30 سبتمبر الماضي، أشار 62% من المستطلعة آراؤهم إلى أهمية استغلال زخم الهجمات ضد “حزب الله” في ضرب إيران قبل الانتخابات الأمريكية، في حين كانت أغلبية الإسرائيليين (74%) تعارض شنّ هجوم انتقامي على إيران يؤثر على علاقات إسرائيل مع حلفائها في أعقاب الهجوم الأول 14 أبريل 2024، حسب استطلاع رأي للجامعة العبرية في 14-15 أبريل. وفي المقابل يتبدى الانقسام في المجتمع الإسرائيلي حول ترتيب أولويات الحرب في غزة، تحديدًا بين القضاء على حركة “حماس” أو عودة المحتجزين.
حسابات متعددة
تحكم اتجاهات الداخل الإسرائيلي إزاء التصعيد الإقليمي عدة اعتبارات، وذلك على النحو التالي:
(&) الأولوية القصوى للأمن: تشير العديد من الدراسات إلى معاناة المجتمع الإسرائيلي من هاجس الأمن في ظل بيئة إقليمية معادية، ومع استمرار الحرب على غزة لما يزيد على عام كامل وترسيخ خطاب التهويل من فظائع الحرب وتعدد جبهاتها وتشبيهها بحرب 1948، يبدو أن المجتمع الإسرائيلي تكيف مع وجود تهديدات متعددة تتطلب معالجة عسكرية وأمنية، وهو ما يظهر في المواقف من الجيش، إذ ازدادت ثقة الجمهور الإسرائيلي عمومًا، واليهود خصوصًا، في أداء جيش الاحتلال بنسبة 76%، حسب استطلاع رأي لمعهد ديمقراطية إسرائيل أُجري في الفترة من 15 إلى 19 سبتمبر الماضي، كما يظهر ذلك في تقييم الجمهور لأداء القادة المحسوبين على الجيش وفي مقدمتهم رئيس الأركان هيرتسي هاليفي بمعدل 2.75 (التقييم من 1 إلى 5)، يليه وزير الدفاع يوآف جالانت، وجاء نتنياهو في المرتبة الرابعة بعد بيني جانتس بمعدل 2.17، إلا أن تلك النتائج قد تتغير في ضوء التصعيد على جبهة لبنان، وخاصة عقب اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، إذ يشير استطلاع “جيويش نيوز سنديكت” في 30 سبتمبر إلى تأييد 83% من المستطلعة آراؤهم إلى تأييد موقف نتنياهو باستهداف حزب الله دون التنسيق مع الجانب الأمريكي، في ظل الزخم الذي اكتسبته الحملة الإسرائيلية على لبنان خلال النصف الثاني من سبتمبر، وقبل الهجوم الصاروخي الإيراني.
(&) الفرصة التاريخية: يترقب الإسرائيليون فرصة جوهرية لتغيير معادلة الصراع مع إيران والتي ترتكز على جانبين، أولهما الردع النووي في الداخل وثانيهما فرض حزام ناري في محيط إسرائيل، وفيما تبرز تصريحات قادة الائتلاف البدء تفكيك الحزام الناري عبر الضربات المكثفة على “حزب الله” ومنظومته القيادية وجناحيْه العسكري والمدني، تركز أغلب الأصوات في الساحة السياسية الإسرائيلية على أهمية تحيُّن الظرف الإقليمي والدولي الراهن لتوجيه ضربة قوية لإيران، تستهدف بشكل عام إضعاف النظام والوضع في الاعتبار تدمير البرنامج النووي خاصة في ظل التقارير الإعلامية عن قدرة إيران على تصنيع أسلحة نووية خلال أسابيع معدودة ومرور البيت الأبيض بمرحلة “البطة العرجاء”، وبالتالي تمثل المرحلة الحالية فرصة تاريخية قد لا تتاح لإسرائيل مرة أخرى، إلا أن ذلك الخيار ينطوي على مخاطرة كبيرة علاوة على عدم قدرة إسرائيل بمفردها على تحقيق ذلك الهدف رغم تصريحات القادة السياسيين.
(&) الحسابات السياسية الداخلية: على الرغم من خفوت مشهد المظاهرات المطالبة بعودة المحتجزين من قطاع غزة أمام زخم التصعيد في جبهة الشمال والمواجهة مع إيران، يخدم التصعيد في مختلف التيارات السياسية والأيديولوجية الحسابات السياسية الداخلية التي قد تزداد سخونة بمجرد هدوء موجة التصعيد الراهنة. فعلى صعيد الائتلاف الحكومي، يبدو رئيس الوزراء منشغلًا بتهيئة الأجواء للإفلات من المساءلة عن هجوم السابع من أكتوبر 2023 من خلال محاولة تعديل قانون لجان التحقيق وتشكيل لجنة تحقيق سياسية، وذلك في أعقاب شغور منصب رئيس المحكمة العليا قبل عام وتقاعد رئيس المحكمة المؤقت عوزي فوجلمان مطلع أكتوبر الجاري، وبالتالي قد يختلط ملف التحقيق بملف “الانقلاب القضائي” الذي يقف خلفه وزير العدل ورئيس لجنة تعيين القضاة ياريف ليفين، وكان أبرز علامات الانقسام في الداخل الإسرائيلي مطلع 2023.
وإجمالًا؛ يمثل النزوع الإسرائيلي للتصعيد في الشرق الأوسط للعديد من المحددات الداخلية ورؤية المجتمع لتطورات الصراع في المنطقة، في ظل خطاب سياسي وحزبي بالغ التطرف ومجتمع أمني بات يتكيف على تغير أنماط التهديدات وطول أمد الصراعات طالما كان المجتمع قادرًا على تحمل فاتورة تلك الحرب بما يتناسب مع تحقيق أهدافها. ومع تلك المعطيات إلا أن التهديدات الداخلية جراء التصعيد قد تتزايد بمرور الوقت في ظل الخلافات السياسية الداخلية أو تجدد المواجهات بين العرب واليهود إثر تزايد الانقسامات وانخفاض مستوى التضامن الداخلي في ظل بروز عرب الداخل في خريطة الصراع عبر عمليات الدهس وإطلاق النار.