في أحد أحياء القاهرة الشعبية، تعيش مارتينا برفقة زوجها وأطفالهما الثلاثة. تظهر الأسرة في المناسبات الاجتماعية والدينية معاً، يبتسمون في الصور التي يشاركها الأبناء مع أصدقائهم على منصات التواصل.
حياة مارتينا تبدو هادئة وسعيدة في ظاهرها، لكن الحقيقة ليست كذلك، الزوجان منفصلان في الواقع، واختارا العيش في هذه الصورة بعدما سُدت الأبواب أمام طلاق رسمي لا يصم أياً من الزوجين بالزنا.
تقول مارتينا، إنها وزوجها قررا الانفصال بعدما استحالت الحياة بينهما منذ سنوات بعيدة، لكن العقبة كانت توثيق الطلاق بشكل رسمي، كون الكنيسة ترفض الطلاق إلا في حالة الزنا، أو تغيير المعتقد (الزنا الروحي)، فكان الخيار الأنسب لهما ولأطفالهما العيش معاً من دون وجود علاقة جسدية.
وتضيف السيدة المصرية “الزوج لا يرغب في الطلاق، فهو يريد الحفاظ على المظهر الاجتماعي، في وقت يقيم علاقات غير شرعية”.
وفي المقابل لا تستطيع هي تحمُّل تبعات الطلاق وفقاً لشَرطي الكنيسة، أولهما الإقرار بالزنا وهو وصمة ستظل عالقة بسمعة أسرتها المحافظة، التي تعود جذورها لمحافظة سوهاج في صعيد مصر، والآخر تغيير الملّة أو الدين، وهي طريق لا تُحبذ الأسر المحافظة الخوض فيها، لكنها في النهاية تتمنى أن يظهر قريباً مخرج آمن من هذه الحياة التعيسة.
• تراجع تشريعي…..
هذه المعاناة لا تحملها مارتينا وحدها، بل إنها معاناة آلاف الأسر المسيحية في مصر، بسبب تعقيد إجراءات الطلاق لدى جميع الطوائف، وهي قضية اجتماعية شائكة تنتظر حلولاً جذرية، لم تكن بهذا التعقيد قبل نحو 80 عاماً، عندما وضع المجلس الملّي العام لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس عام 1938، التي كانت تبيح الطلاق لتسعة أسباب.
والأسباب هي:
علة الزنا.
خروج أحد الزوجين عن المسيحية وانقطاع الأمل في عودته.
غياب أحد الزوجين خمس سنوات متتالية بحيث لا يعلم مقره أو حياته من مماته وصدور حكم بإثبات غيابه.
حكم على أحد الزوجين بالأشغال الشاقة أو السجن أربع سنوات أو أكثر.
الجنون أو مرض عضال لا يُرجى منه شفاء.
الاعتداء على أحد الطرفين من جانب الآخر.
إساءة السلوك من جانب أحدهما وفقدان الأمل في التصالح.
إساءة المعاشرة والإخلال بالواجبات الزوجية.
ترهبن أحدهما.
وفي مطلع السبعينات أطلق البابا شنودة الثالث مبدأ “لا طلاق إلا لعلة الزنا”، ودخلت الكنيسة في اشتباك مرات عدة مع القضاء الذي كان يحتكم إلى لائحة 1938، ولحسم هذه القضية تراجعت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية رسمياً عام 2008 عن شروط الطلاق الموجودة في لائحة 1938، بعدما نشر البابا شنودة بعض التعديلات على اللائحة في الجريدة الرسمية، وتضمنت إلغاء المواد التي كانت تبيح الطلاق لأسباب أخرى غير الزنا، وحصرت التعديلات في طلب التطليق لعلة زنا الزوج الآخر.
واشتمل تعريف “الزنا” في التعديلات على نطاق واسع من الأفعال، لا تقتصر بالضرورة على إثبات حدوث واقعة “الزنا” نفسها، وهو ما يعرف بالزنا الحكمي.
• قانون جديد….
عندما تم تجليسه بابا للإسكندرية وبطريرك للكرازة المرقسية عام 2012، توقع كثيرون أن البابا تواضروس الثاني جاء وفي جعبته إجراءات إصلاحية عديدة ستذيب الجمود في مسائل الأحوال الشخصية، ومنها قضية الطلاق، وهو ما أفصح عنه صراحة في عدة لقاءات متلفزة، أكد فيها وجود انفراجة قريبة في هذه القضية.
وبعد حديث طويل على مدار السنوات الماضية عن قانون جديد للأحوال الشخصية، ظهرت أخيراً تسريبات عن ملامح القانون الذي لم يصل إلى البرلمان حتى الآن، ، إذ لا يزال القانون حبيس أدراج وزارة العدل.
وبحسب التسريبات التي نشرتها وسائل إعلام محلية، فإن الطوائف الثلاث (الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية) توافقت على أن يكون لكل طائفة باب ينظم مسألة الطلاق، لكن هل يفتح القانون نوافذ جديدة تُيسر إجراءات الطلاق؟
وفي مسودة القانون الجديد تتمسك الكنيسة الأرثوذكسية (يتبعها غالبية المسيحيين المصريين) بالتعديلات نفسها التي أدخلها البابا شنودة الثالث على لائحة 1938، التي حصرت أسباب الطلاق في الزنا الفعلي والزنا الحكمي (مظاهر تؤكد وجود علاقة غير شرعية)، بحسب حديث الأنبا بولس مطران شبرا الخيمة، ورئيس المجلس الإكليريكي للإسكندرية والوجه البحري .
• ثمة توسعاً نسبياً في دلائل الزنا الحكمي، ليشمل المكاتبات الإلكترونية، إلى جانب تردد أي من الأزواج على شخص آخر، وغيرها من الدلائل، مشدداً على أن الأدلة ينظر إليها معاً، ولا يُعتد بأي دليل بمفرده.
كما تشير ملامح القانون إلى أن الكنيسة الإنجيلية أقرت بأن أسباب الطلاق تتلخص في تغيير الدين وعلّة الزنا فقط، بينما رفضت الكنيسة الكاثوليكية الطلاق تماماً وأقرت الانفصال الجسدي فقط، كما أن الكنيستين الأرثوذكسية والإنجيلية أتاحتا الزواج الثاني في حالة الهجر، وفي حالة الزنا يُتاح الزواج للطرف البريء، بينما الكنيسة الكاثوليكية رفضت إقرار الزواج الثاني.
• الزواج المدني…
بالتوازي مع العمل على إطلاق قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين، ثمة مطالبات بقانون موحد لجميع المصريين ورفض مبدأ الاحتكام للشرائع الدينية، استناداً لمبدأ المواطنة، والتزاماً بالمواد الدستورية التي نصت على المساواة بين الرجال والنساء، وحظرت التمييز على أي أساس بين المواطنين والمواطنات.
إن الزواج هو جوهر الحرية، وفي حالة استحالة الحياة يجب أن يحدث الانفصال من دون تعقيد، منذ زمن بقانون موحد يتيح الزواج والطلاق لجميع المصريين بحرية وعلى قدم المساواة، مع وجود نص في القانون يتيح الزواج وفقاً للشرائع الدينية إذا رغب الشريكان في ذلك.
• مصر دولة مدنية دستورياً، ويجب ألا تتحكم المؤسسات الدينية في حياة الناس بشكلٍ كامل.
• لا ترى البرلمانية السابقة إليزابيث شكري أن الحل في قانون موحد يتيح الزواج المدني، نظراً لصعوبة تطبيقه في الواقع، مع وجود تنوع ديني وثقافي كبير في مصر، حتى في حالة أن ينص القانون على الاختيار بين العقد المدني والزواج الديني، سيصعب تقبل الأمر في المجتمع المصري، وسترفض غالبية الأسر الزواج المدني.
وتستطرد في حديثها “في الآونة الأخيرة زادت وتيرة الانفصال لأسباب عدة، منها الضغوط الحياتية، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح بعض الأزواج يعيش في حالة انفصال كامل من دون وقوع طلاق رسمي، لذا نطالب بانفراجة في هذه القضية”.
وتتابع: “لست مع تيسير الطلاق بالشكل الذي يؤدي إلى تدمير الأسر، لكن في حالة استحالة الحياة ووقوع الانفصال بالفعل وفشل جميع محاولات الإصلاح، لماذا لا يتم توثيق الطلاق تحت غطاء من الكنيسة، وبما لا يخالف تعاليم الكتاب المقدس، حتى لا تتفاقم المشكلات، وتظهر دعوات فيها مغالاة”.
وعن رأي الكنيسة الأرثوذكسية في الزواج المدني، أبدى الأنبا بولس مطران شبرا الخيمة رفضاً قاطعاً للفكرة، قائلاً “لا يمكن الموافقة أبداً على الزواج المدني، لأن الزواج المعترف به لدينا لا بد أن يتم في الكنيسة، ويقوم الكاهن بالصلاة لهما، فالكتاب يقول “ما جمعه الله” والله يجمع الزوجين من طريق الكاهن والكنيسة فقط، وليس ثمة طريق أخرى للزواج”.
ورغم تعدد الحلول والمبادرات على الطاولة، إلا أنه ليس ثمة حل جذري في الأفق لقضية الطلاق، بحسب ما يرى مراقبون، إذ لا تتماشى ملامح القانون الجديد مع حجم المشكلة، كما أن المطالبات بالزواج المدني بعيدة من ثقافة المجتمع، بحسب رأيهم وهو ما يجعل الطلاق لدى المسيحيين المصريين، أزمة اجتماعية يخشى الجميع من تفاقمها.
مي محمد ✍️✍️✍️