في يونيو 2024، قام رجل فيتنامي يُدعى نيان فان ها بركوب سيارته الخاصة وساقها لمسافة 100 كيلومتر حتى وصل إلى العاصمة الفيتنامية هانوي. كان هدفه من الرحلة هو شراء الذهب. وصل نيان أمام أحد البنوك الفيتنامية التي تبيع الذهب في الساعة 4 صباحاً. قد يتساءل البعض عن السبب وراء ذهابه في هذا الوقت المبكر، خاصة أن البنوك لا تفتح أبوابها قبل الساعة 8 صباحاً. في الحقيقة، كان نيان حريصاً على الوصول مبكراً ليحجز دوره في طوابير الناس التي تصطف أمام البنوك في فيتنام مؤخراً لشراء سبائك الذهب.

لكن لسوء حظ نيان، عندما وصل في الساعة 4 صباحاً، وجد مئات الأشخاص قد سبقوه بالفعل ووقفوا أمام البنك منتظرين فتح أبوابه ليكونوا أول من يشترون الذهب. البعض منهم جاء بحصر وسجاد من منازلهم، وأحضروا معهم طعاماً وشراباً، وفرشوا أمام البنك وناموا هناك منذ مساء اليوم السابق ليكونوا أول من يدخل عندما يفتح البنك في الصباح. وبالفعل، فتح البنك أبوابه في الساعة 8 صباحاً، وفي لحظات باع كل الذهب المتاح لأول 150 عميلًا كانوا في الطابور، وبقية الناس، بمن فيهم نيان، غادروا دون أن يحصلوا على شيء. نيان قرر بعد ذلك أنه سيبيت أمام البنك من الساعة 1 صباحاً في المرة القادمة ليضمن حصوله على مكان في الطابور.

تلك الحادثة تجعلنا نتساءل: ما الذي يحدث بالضبط في سوق الذهب في فيتنام؟ لماذا يقف الفيتناميون في طوابير أمام البنوك ومحلات الذهب لشراء الذهب؟ وما هو السبب وراء هذا الازدحام؟ ماذا يخشى هؤلاء الناس ولماذا يشترون الذهب بكميات ضخمة؟ والأهم من ذلك، لماذا هذا الإقبال الشديد في حين أن سعر الذهب في فيتنام أغلى بكثير من سعره العالمي؟

في أبريل 2024، حكمت محكمة فيتنامية بالإعدام على سيدة الأعمال الفيتنامية ترونج ماي لان في فصل مهم من فصول المحاكمة الأكثر إثارة على الإطلاق في فيتنام. ماي لان، صاحبة الـ67 عامًا، حُكم عليها بالإعدام، والذي إذا تم تنفيذه، فسيكون غالباً عن طريق حقنها بالحقنة القاتلة، وذلك بسبب ضلوعها في واحدة من أكبر عمليات الاحتيال المصرفي في التاريخ. ببساطة، كانت ماي لان تدير شركة تطوير عقاري عملاقة تُدعى Van Thin Phat Holdings Group قبل القبض عليها في أكتوبر 2022.

كانت هذه الشركة، مثلها مثل العديد من شركات التطوير العقاري الفيتنامية الأخرى، تعتمد بشكل كبير على الديون التي تأخذها من البنوك لتمويل مشاريعها العقارية. في هذا السياق، ظهر بنك Saigon Commercial، أكبر بنك تجاري في فيتنام والمعروف اختصاراً باسم S.E.B، كممول رئيسي لماي لان وشركتها العقارية. المشكلة كانت تكمن في أن القانون الفيتنامي يمنع أي فرد من امتلاك أكثر من 5% من أسهم أي بنك. لتجاوز هذه العقبة، قامت ماي لان بإنشاء مئات الشركات الوهمية التي من خلالها استطاعت شراء أكثر من 90% من أسهم البنك.

هذه السيطرة مكنت ماي لان من تعيين حبيبها في إدارة البنك قبل أن تأمرهم بالموافقة على مئات القروض لمجموعة كبيرة من الشركات الوهمية التابعة لها. بالتالي، أصبح البنك حرفياً يعمل لحسابها. القروض التي حصلت عليها ماي لان شكلت 93% من إجمالي قروض البنك، وكل هذا على أكتاف وملاءة البنك الذي كانت صورته الخارجية تعكس أنه يتعامل مع واحدة من أكثر المؤسسات المالية احتراماً في البلاد، لكن في الداخل كان البنك مملوكاً ومداراً من قبل عصابة.

حجم الأموال التي سحبتها ماي لان بالتواطؤ مع مدير البنك كان مهولاً ويفوق الخيال. على سبيل المثال، النيابة الفيتنامية تقول إن ماي لان على مدار الثلاث سنوات التي بدأت من فبراير 2019، جعلت السائق الخاص بها يسحب مبالغ نقدية من البنك قيمتها الإجمالية اقتربت من 108 تريليون دونج فيتنامي، أو ما يعادل أكثر من 4 مليار دولار أمريكي. هذه الأموال أخذتها وخزنتها في قبو بيتها. مال سائبة بلا صاحب أو لها صاحب في الحقيقة وهو المودعين، ولكن إدارة البنك متآمرة والبنك المركزي مسؤول كبير فيه كان يتلقى رشوة ليصمت.

لكن من سوء حظ ماي لان، كل شيء انكشف في أكتوبر 2022 بعد القبض عليها وظهور أخبار حول علاقتها ببنك S.E.B. الفيتناميون أسرعوا إلى البنك لسحب أموالهم، مما اضطر الحكومة الفيتنامية للتدخل لإنقاذ البنك من الانهيار. أثناء التحقيقات، اتضح أن ماي لان حصلت على قروض من بنك S.E.B بقيمة 44 مليار دولار، ومعظم هذه الأموال تبخرت وطار في الهواء ولم يعد موجوداً. المحكمة التي حكمت على ماي لان بالإعدام أمرتها في نفس الوقت أن تعيد 27 مليار دولار، لكن غالباً هي لا تملك كل هذه الأموال، وبالتالي يمكننا القول أن هذه الأموال ضاعت للأبد.

كانت هذه الحادثة نقطة تحول للقطاع العقاري الفيتنامي، الذي يعاني حالياً من واحدة من أسوأ فتراته. ثقة الفيتناميين في شركات التطوير العقاري تراجعت بشكل كبير، خصوصاً وأن هذه الشركات كانت تواجه مشاكل مالية كبيرة حتى قبل أزمة ماي لان وشركتها. من ناحية أخرى، باتت شركات التطوير العقاري تواجه صعوبة في الحصول على التمويل اللازم لإنجاز مشاريعها، خاصة بعد القبض على العديد من المديرين بتهم الفساد والاحتيال المالي.

النتيجة كانت شلل القطاع العقاري في البلاد وتراجع الثقة في قطاع البنوك، ومعاناة البورصة الفيتنامية التي تضم شركات من القطاعين من خسائر غير مسبوقة. في ظل خوف وقلق الفيتناميين من العقارات والبنوك والأسهم، ظهر الذهب كطريقة أكثر أماناً للحفاظ على قيمة ثرواتهم من مخاطر التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية. هنا، نحن لا نتحدث عن الأوراق المالية للذهب، ولا عن أسهم شركات الذهب، ولا عن العقود الآجلة للذهب. نحن نتحدث عن الذهب المادي، وتحديداً السبائك التي يمكن للمواطن ببساطة شراؤها وإخفاؤها في بيته تحت السرير والاطمئنان عليها كل حين.

في 2023، ارتفع إقبال الفيتناميين على حيازة الذهب. هذا الإقبال زاد جداً في نهاية السنة، مما ساهم في وصول أسعار الذهب في فيتنام إلى مستويات قياسية. سعر الذهب في فيتنام في ديسمبر الماضي كان أعلى بكثير من السعر العالمي. هذه الفجوة زادت في 2024 مع ارتفاع الطلب الفيتنامي على الذهب في ظل وجود قيود على العرض. ومن هنا ظهرت مشاهد الطوابير التي يقف فيها الفيتناميون أمام البنوك ومحلات الذهب في البلاد لشراء أي ذهب يجدونه، سواء كان سبائك أو مشغولات ذهبية.

الطلب في فيتنام خلال الشهور الأخيرة على الذهب، وخصوصاً السبائك المناسبة أكثر للاجتناء، كان أعلى بكثير من المعروض. القيود الموجودة على جانب العرض كانت بسبب الحكومة الفيتنامية، وسأخبركم كيف. في 2012، أصدرت الحكومة الفيتنامية لوائح احتكرت بموجبها البنك المركزي الفيتنامي استيراد الذهب، واحتكرت بموجبها شركة Saigon Jewelry Company الحكومية إنتاج سبائك الذهب. SJC تنتج السبائك وتوزعها على البنوك والشركات التي تبيعها للمواطنين. كل السبائك في فيتنام عليها ختم SJC.

كانت اللوائح تسمح فقط لبعض الشركات الكبيرة باستيراد السبائك بشرط أن تصنعها وتصدرها في صورة مشغولات ذهبية. هذا الاحتكار كان يهدف إلى السيطرة على السوق، لكن الحكومة بدأت تعاني من تبعاته في 2024 مع ارتفاع الطلب المحلي على السبائك وعدم قدرة شركة SJC الحكومية على تلبية هذا الطلب. الطلب يفوق قدرتها الإنتاجية، مما ساهم في ارتفاع أسعار الذهب المحلية، وخصوصاً السبائك، إلى مستويات تتجاوز الأسعار العالمية بحوالي 20%. البنك المركزي الفيتنامي حاول في أبريل الماضي تقليل هذه الفجوة قدر الإمكان عندما قرر لأول مرة منذ ديسمبر 2013 إجراء مزادات علنية لبيع كميات كبيرة من الذهب في صورة سبائك.

بدءاً من 22 أبريل 2024، أجرى البنك المركزي الفيتنامي 9 مزادات علنية باع فيها 48500 تيل من السبائك، ما يعادل تقريباً 1.8 طن من الذهب. لمن لا يعرف، وحدة قياس سبائك الذهب في فيتنام وبعض الدول الآسيوية الأخرى تُسمى “تيل”، وهي تساوي 37.5 جرام من الذهب. لكن هذه المزادات لم تحل مشكلة سبائك الذهب في السوق المحلي، مما دفع البنك المركزي الفيتنامي لتغيير أسلوبه بعد فشل المزادات في تحقيق الهدف منها، وهو تضييق الفجوة بين السعرين المحلي والعالمي.

في نهاية يونيو، أعلن نائب محافظ البنك المركزي الفيتنامي أنه بدءاً من 3 يونيو 2024 ، سيبيع البنك الذهب مباشرة لأربع بنوك تجارية حكومية بسعر سيحدده البنك المركزي نفسه بناءً على الأسعار الدولية. من تلك اللحظة، أصبح المواطن الفيتنامي قادراً على شراء سبائك الذهب من فروع بنوك أجري بنك، وبيت كام بنك، وبي أي دي في، وبيت إن بنك المنتشرة في جميع أنحاء فيتنام. الفيتناميون بمجرد أن عرفوا ذلك، أسرعوا للتزاحم أمام فروع البنوك الحكومية الأربعة وسحبوا بسرعة الإمدادات الذهبية التي وصلت للبنوك.

هذا الازدحام زاد من حدة الأزمة، حيث تحول الموضوع إلى عدوى أصابت البلاد، وأصبح الجميع يشتري الذهب لأنه يرى الآخرين يفعلون ذلك. دفع هذا البنوك لوضع سقف للكميات التي يمكن لأي شخص شراؤها، وأصبح مسموحًا لكل مشتري أن يأخذ سبيكة وزنها تيل واحد فقط من الذهب. عندما زادت ظاهرة الازدحام عن حدها، أطلقت البنوك نظام تسجيل إلكتروني يسمح للراغبين في شراء الذهب بالتسجيل إلكترونياً ومن ثم الذهاب إلى البنك فقط لاستلام الكميات. الكميات المتاحة كانت تنفد في دقائق بمجرد فتح باب التسجيل. هذا النظام الإلكتروني ساهم في تقليل مشكلة الازدحام، لكنه لم يحل مشكلة العرض المحدود مقارنة بحجم الطلب المتزايد.

في ظل تفضيل الفيتناميين للذهب على أي أداة استثمارية أخرى، انعكس هذا على الإقبال على المشغولات الذهبية. الفيتناميون الذين لا يستطيعون شراء سبائك يذهبون لشراء المشغولات الذهبية كحل بديل، مما سبب ازدحامًا أمام محلات الذهب وزاد من أنشطة تهريب الذهب. جزء كبير من منتجات المجوهرات والمشغولات الذهبية في فيتنام يعتمد على الذهب المهرب، لأن الحكومة لا تمنحهم تصاريح استيراد. هذا يغذي أنشطة التهريب، بسبب القيود على الاستيراد والفجوة السعرية الكبيرة بين السوق المحلي والعالمي.

في مارس الماضي، اتهمت النيابة الفيتنامية 24 شخصاً بالتورط في تهريب 6 طن و150 كيلوغرام من الذهب الخالص من كمبوديا إلى فيتنام. التهريب أصبح جزءاً أساسياً من سوق الذهب في فيتنام وسيظل كذلك طالما استمرت القيود الحكومية على السوق. الحكومة غير قادرة على تلبية الطلب المحلي المتزايد على سبائك الذهب بسبب هذه القيود.

أثناء حضوره مؤتمر آسيا والمحيط الهادئ للمعادن الثمينة الذي انعقد في سنغافورة في يونيو 2024، صرح هيون ترونغ كان، نائب رئيس جمعية تجار الذهب في فيتنام، بأن سبائك الذهب أصبحت أداة الاستثمار الأساسية في فيتنام. قال إن الناس أصبحوا يقفون في طوابير تحت المطر والشمس لشراء السبائك، لدرجة أن البنوك التجارية التي كانت تبيع طنين في الشهر أصبحت تبيع طنين في أسبوع واحد. في تصريحاته لرويترز، قال كين إن الحكومة الفيتنامية قررت أخيراً أنها ستسمح للشركات باستيراد الذهب بنفسها ولحسابها لأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات، وهذا من المتوقع أن يبدأ في يوليو أو أغسطس 2024، ولكن حتى لحظة تصوير الحلقة، لم تتخذ الحكومة الفيتنامية أي قرار بهذا الخصوص.

هذا يعني أن أزمة سوق الذهب في فيتنام ستظل مستمرة، والفجوة السعرية الكبيرة التي تعكس التشوه في السوق ستظل موجودة، خصوصاً وأن الفيتناميين حالياً لا يرون أمامهم سوى الذهب كملاذ آمن….

مي محمد ✍️✍️✍️

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *