أن تعلن واشنطن عن قرارها بإرسال منظومة الدفاع الجوي «ثاد» الأكثر تطوراً في العالم إلى إسرائيل فهذا يعني جملة أمور، أبرزها على الإطلاق، أنّ إدارة بايدن تفاهمت مع رئيس الحكومة الإسرائيلية حول الضربة الإنتقامية على إيران، وأنّ هذه الضربة لن تكون صورية أو محدودة بل مؤذية، ما يدفع إلى الخشية من استتباع ردّ إيراني مضاد.
وقد يكون البيت الأبيض قد نجح في انتزاع وعد من بنيامين نتنياهو بعدم الإقتراب من أهداف تعتبرها طهران قاتلة ولا مجال للتسامح معها، مثل المنشآت النووية، وفق ما توحي بها المؤشرات الصادرة عن واشنطن. لكن هل فعلاً يمكن الركون إلى وعود نتنياهو؟ فهو «لحس» وعوده أكثر من مرّة خلال الأشهر الماضية، أضف إلى ذلك، أنّ الهامش الزمني الإنتخابي أصبح قاتلاً، ومرشح نتنياهو هو دونالد ترامب، ما يعني أنّ الإتفاق حول الضربة المفترضة على إيران ورسم خطوطها الحمر إنما يحصلان بين خصمين إنتخابيين. ولا حاجة للإشارة إلى أنّ ضربة إسرائيلية على منشآت نووية أو نفطية قد يؤدي إلى اضطرابات في أسواق النفط، وبالتالي ارتفاع جنوني في أسعاره، وهو ما سيدفع بالناخب الأميركي إلى وضع اللوم على المرشحة الديموقراطية، وبالتالي إسقاطها بالضربة القاضية. وهو السيناريو الذي لا بدّ أن يكون يقض مضجع الديموقراطيين.
وعلى رغم من ذلك، لا تستطيع إدارة بايدن التهرّب من الإلحاح الإسرائيلي على توجيه الضربة إلى إيران. ففي العاصمة الأميركية، وجّه الأسبوع الماضي بعض أعضاء مجلس الشيوخ رسالة الى الرئيس الأميركي، تطالبه بالالتزام بالمواعيد النهائية لتقديم التقارير، من أجل اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضدّ إيران.
والمهمّ في الخبر، أنّ موقّعي الرسالة هم من الحزبين الديموقراطي والجمهوري. وهؤلاء يستميتون في سبيل إعادة انتخابهم عن الولايات المتأرجحة. ما يعني أنّ المناخ العام للشارع الأميركي معادٍ لإيران. وتدعو الرسالة الى تقييد قدرة إيران على بيع النفط وشراء الأسلحة وتوزيعها.
وتخشى الإدارة الديموقراطية من «بلفة» قد تقوم بها إسرائيل في معرض ضربتها المتوقعة، وأن تضرب أهدافاً ليست مدرجة ضمن الإتفاق. فالثقة بين بايدن ونتنياهو في أدنى درجاتها. وتكفي الإشارة إلى أنّ المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس كانت قد تجنّبت الردّ على سؤال في آخر مقابلة لها حول ما إذا كانت تعتبر نتنياهو حليفاً وثيقاً، فأجابت بدلاً من ذلك بأنَ لواشنطن علاقة وثيقة بإسرائيل.

وفي المقابل، تجهد طهران في ترداد تحذيراتها من أي خطأ قد ترتكبه اسرائيل في ردّها الإنتقامي. ولم يعد سراً أنّ وزير خارجيتها عباس عراقجي الذي زار الخليج بعد لبنان وسوريا، لوّح بعواقب كبيرة في حال استخدام إسرائيل للمجال الجوي السعودي.
في هذه الأثناء تستمر الحرب الإسرائيلية على لبنان وفق الوتيرة القائمة حالياً. أي استمرار الضربات الجوية العنيفة على طول المساحة اللبنانية والمترافقة مع مواجهات ميدانية في الجنوب تحت سقف محدّد، في انتظار ما ستؤول إليه التطورات بين إيران وإسرائيل. لذلك عمدت باريس الى تكثيف ضغوطها بغية تحقيق إنجاز ما داخلي لبناني تحسباً لمزيد من تدهور الأوضاع الإقليمية. وتدعم واشنطن تحركات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وهي التي أبدت قلقها لإسرائيل حيال خرق ما كان تمّ التوافق حوله في لبنان لناحيتين:

ـ الأولى قصف عمق بيروت، وهو ما يخرق التفاهم الذي قام على أساس ضرب الأهداف العسكرية لـ»حزب الله» فقط، وتحييد الأماكن المدنية. لكن التبرير الإسرائيلي تحدث عن ملاحقة هدف عسكري هو وفيق صفا وليس لاستهداف مناطق مدنية في بيروت. ولاحقاً أبلغت واشنطن إلى المسؤولين اللبنانيين أنّها انتزعت من إسرائيل التزاماً جديداً بتحييد الأماكن السكنية في العاصمة.

ـ الثانية، الطلب من قوات «اليونيفيل» الإنسحاب الى مسافة 5 كلم. وهو ما يعني أنّ إسرائيل تخطط للدخول إلى هذا العمق والبقاء فيه، وأن يصبح الخط الفاصل على بعد 5 كلم من الحدود. وبالتالي سيسقط القرار 1701 وتعمل إسرائيل على فرض أمر واقع جديد. وخلال تواصل الإدارة الأميركية مع تل أبيب تمّ التشديد على رفض أميركي وأوروبي كامل لأي خطوة من هذا النوع، خصوصاً أنّها ستكون بمثابة الخطأ الكارثي على اسرائيل نفسها. فترسيخ الإحتلال سيعيد منح «حزب الله» شرعية المقاومة وسط تأييد شعبي لبناني منطقي، وسيجد قوى إقليمية عدة مستعدة لمساعدته وتسليحه مجدداً. وهو ما يعني نسف كل الأهداف المطلوبة الآن. وسيمنع ذلك قيام دولة قوية في لبنان، وسط تصاعد النزاعات الداخلية. وجدّدت واشنطن تأكيد تمسكها بانسحاب إسرائيلي بري في حال القيام بعملية عسكرية تقول إسرائيل إنّها تهدف لتدمير البنية العسكرية التحتية لـ«حزب الله».
في الواقع بات واضحاً وجود توافق أميركي ـ أوروبي ـ إسرائيلي على إنهاء التركيبة العسكرية لحزب الله. وأنّ هذا الأمر سيُقابل بخطوات مماثلة على الساحة السورية، ما سيؤدي الى تقليص النفوذ الإيراني عند الساحل الشرقي للبحر المتوسط الى حدّه الأدنى، وليصبح ضعيف التأثير.

وفي المقابل، يتمّ التفاهم مع إيران على أدوار جديدة، بدأ بعضها بالظهور في العراق وبعضها الآخر ينتظر تفاهمات إضافية في الخليج وآسيا الوسطى، وبعد أن تكون تمّت إعادة تنشيط الإقتصاد الإيراني من خلال رفع العقوبات. ولكن ثمة أسئلة في هذا المجال حول ما ستؤول إليه الأمور بين إسرائيل وإيران، والأهم على أي صورة سترسو الإنتخابات الرئاسية الأميركية. وهذا ما يدعو ماكرون الى دفع طهران الى إنجاز ترتيبات سياسية في لبنان إستباقاً لأي مفاجآت غير سارة قد تحصل وتأخذ الأمور الى منحى أكثر دراماتيكية.
ومن هنا الضغط الذي تمارسه باريس بمواكبة أميركية لإنجاز الإستحقاق الرئاسي في لبنان سريعاً، وحتى قبل وقف إطلاق النار.

ولأنّ الرئيس نبيه بري يُعتبر نقطة الإرتكاز على هذا الصعيد وصاحب الدور المحوري، فلا بدّ من ملاحظة النقاط الآتية:
ـ الإتصال الطويل بين بري ووزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن.
ـ تفويض «حزب الله» العلني والكامل إلى بري.
ـ زيارة رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف لبيروت بدعوة من بري، في وقت لم يمرّ سوى أيام على زيارة وزير الخارجية الإيراني لها.
ـ الإتصال بين بري وماكرون.

ووفق ما تسرّب، فإنّ الأوساط الديبلوماسية الغربية تتحدث عن تقدّم صريح في ملف الإستحقاق الرئاسي، وأنّ المفاوضات الدائرة في الكواليس تتركّز حول ضمانات وترتيبات مطلوبة ومطروحة للمرحلة المقبلة، إن ميدانياً أو على مستوى الحكومة المقبلة.

لكن هذه الأوساط تقرّ بأنّ تأمين ولادة هذا الإتفاق يتطلّب أيضاً حفظ ماء وجه الفريق الشيعي خصوصاً على المستوى الميداني، وهو ما يجب أخذه في الإعتبار.

قد تبدو الصورة شديدة الخطورة والتعقيد، لكن تاريخ لبنان يشهد على أنّ الحلول تولد من رحم الأحزان.