حضانة الصغير وإرضاعه حق للأم وواجب عليها دون أجر حال كونها زوجة أو معتدة، أما إن لم تكن كذلك بأن انتهت عدتها فإن لها حقاً في الأجر لقاء الحضانة وحقاً آخر في الأجر لقاء الإرضاع يُلزم به الملتزم بالنفقة على هذا الصغير مراعياً في ذلك يسره وعسره.
غير أنه قد تُوجد من محارم الصغير من تتبرع بحضانته، أو تقبل هذه الحضانة بأجر أقل، فهل يجوز انتزاع الصغير من أمه التي تطلب أجراً لحضانته وتسليمه لتلك المتبرعة؟ كما أنه قد تتوفر أجنبية متبرعة بإرضاع الصغير أو بأجر أقل مما تطلبه الأم حال استحقاقها، فهل يُسلم الرضيع لغير أمه لإرضاعه دون أجر أو بأجر أقل من الأم؟ وما هي حالات ذلك وشروطه وفرضياته المختلفة؟ وما موقف القانون من ذلك كله؟
تنص المادة الثالثة من مواد الإصدار للقانون رقم 1 لسنة 2000 الخاص بتنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية على أنه: “تصدر الأحكام طبقاً لقوانين الأحوال الشخصية والوقف المعمول بها, ويعمل فيما لم يرد بشأنه نص في تلك القوانين بأرجح الأقوال من مذهب الإمام أبى حنيفة، ومع ذلك تصدر الأحكام في المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية بين المصريين غير المسلمين المتحدي الطائفة والملة الذين كانت لهم جهات قضائية ملية منظمة حتى 31 ديسمبر سنة 1955، طبقاً لشريعتهم فيما لا يخالف النظام العام .”
وحيث إنه لا يُوجد نص في قوانين الأحوال الشخصية القائمة يعالج حكم المتبرعة بالحضانة أو بالإرضاع، فإنه يتعين العودة إلى أرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان وفقاً لنص المادة 3 إصدار المشار إليه.
وقد وردت أرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة في كتاب الأحكام الشرعية لمحمد قدري باشا (1821م- 1886م)، ويشتمل على عدد 647 مادة تلتزم بها المحاكم فيما لم يرد فيه نص صريح في قوانين الأحوال الشخصية.
وعليه تنقسم هذه الدراسة إلى المبحثين التاليين:
المبحث الأول: حكم وجود المتبرعة بحضانة الصغير.
المبحث الثاني: حكم وجود المتبرعة بإرضاع الصغير.
وذلك على التفصيل التالي:
المبحث الأول
حكم وجود المتبرعة بحضانة الصغير
نصت المادة 390 من أرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة على أن:
إذا أبت أم الولد ذكراً كان أو أنثى حضانته مجاناً ولم يكن له مال وكان أبوه معسراً ولم توجد متبرعة من محارمه تجبر الأم على حضانته وتكون أجرتها ديناً على أبيه، فإذا وجدت متبرعة أهل للحضانة من محارم الطفل فإن كان الأب موسراً أو لا مال للصغير فالأم وإن طلبت أجرة أحق من المتبرعة وإن كان الأب معسراً وللصبي مال أولاً تخير الأم بين إمساكه مجاناً ودفعه للمتبرعة فإن لم تختر إمساكه مجاناً ينزع منها ويسلم للمتبرعة ولا تمنعها من رؤيته وتعهده كما تقدم فى مادة 370 وكذلك الحكم إن كان الأب موسراً وللصبي مال فإن كانت المتبرعة أجنبية فلا يدفع إليها الصبى بل يسلم لأمه بأجره المثل ولو من مال الصغير .(كتاب الأحكام الشرعية لمحمد قدري باشا).
الشرح والتعليق:
إذا أبت أم الولد أن تحضنه إلا بأجر ووجدت من محارمه من هي أهل لحضانته كجدته لأبيه أو عمته تتبرع بحضانته فإن كان الأجر مستحقاً على الصغير في ماله بأن كان له مال ونفقته بأنواعها واجبة فيه فإنه يسلم للمتبرعة لأن في هذا صيانة ماله من غير إضرار به لأن المتبرعة بحضانته ليست أجنبية عنه بل هي من محارمه.
وإن لم يكن للصغير مال وكان أجر حضانته مستحقاً على الأب فإن كان الأب موسراً لا يعطى للمتبرعة بل يبقى عند أمه ويجبر الأب على دفع أجرتها لأن حضانة الأم أصلح للولد من حضانة غيرها لوفور شفقتها ولا ضرر على الأب لأنه موسر وإن كان معسراً يعطى للمتبرعة لأن في إلزامه بالأجر مع إعساره إضراراً به ولا تقتضيه ضرورة مع وجود المتبرعة من المحارم. (فضيلة الشيخ/ عبد الوهاب خلاف في كتابه أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية، على وفق مذهب أبي حنيفة وما عليه العمل بالمحاكم، دار القلم للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1410 هـ – 1990م، الصفحات 192- 193 – 198 – 199).
الشروط الواجب توافرها في المتبرعة بالحضانة:
يشترط في المتبرعة بالحضانة ما يأتي:
1- أن تكون من المحارم المنصوص عليهن بالمادة (۲۰) من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة ۱۹۲۹ (مضافة بالقانون رقم ۱۰۰ لسنة 1985)، كالجدة لأب أو لأم والخالة والعمة، فلا يقبل التبرع من غير المحارم ولو كن قريبات للطفل كابنة العم أو ابنة الخال، أو الأجنبيات عن الصغير. لأن في دفع الصغير للمتبرعة غير المحرم أو الأجنبية ضرراً به لقصور شفقتها عليه فلا يعتبر معه الضرر في المال.
۲- أن تتوافر في الحاضنة المتبرعة الشروط الواجب توافرها في الحاضنة، فإن لم تكن كذلك فلا يلتفت لتبرعها بالحضانة ويبقى الصغير عند الحاضنة التي تقبل الأجر.
٣- أن تكون الحاضنة المتبرعة موسرة وهو شرط قال به بعض الفقهاء، وقد اختلف في المقصود باليسار: فذهب رأى إلى وجوب أن تكون الحاضنة موسرة بحيث يمكنها أن تنفق على الصغير إذا ما طرأ ما يوجب ذلك كغياب أبيه أو موته وعدم وجود من ينفق على الصغير، والحكمة من ذلك عدم ضياع الصغير.
بينما ذهب رأي آخر إلى أن المقصود باليسار أن تكون الحاضنة قادرة على الحضانة مجاناً.
والرأي الأول هو الذي نرى الأخذ به .
حكم التبرع بالحضانة:
يتعين التفرقة في هذا الشأن بين حالة ما إذا كان الأب معسراً وحالة ما إذا كان الأب موسراً، فإذا كان الأب معسراً سواء كان للطفل مال أو لا، تكون المتبرعة المحرم أحق من الأم التي تطلب أجراً، وذلك رعاية لمصلحة الصغير وحفظاً لماله إن كان له مال والشفقة موفورة له على كل حال وإن كانت أضعف من شفقة الأم وحينئذ تخير الأم إما أن تقبل حضانة الصغير بغير أجر أو تسلمه إلى المتبرعة بحضانته.
أما إذا كان الأب موسراً، فإن الأم تكون أحق بالحضانة من المتبرعة، ولو طلبت أكثر من أجر المثل، ولكنها لا تعطى الزيادة على أجر المثل.
وهذا على خلاف حکم الرضاعة، فإن المتبرعة بالإرضاع ولو أجنبية أولى من الأم التي تطلب أجراً، وكذلك التي ترضى بأجر أقل مما تطلبه الأم، هی أولى بإرضاع الطفل من الأم، وسبب التفرقة أن تطلب الحنان والشفقة ووفرة الرعاية أهم وأعظم في الحضانة عن الإرضاع، فكانت الأم أولى بها في كل حال لما لها من كمال الشفقة والحنان بولدها وشدة حرصها عليه.
ويسري حكم التبرع بالحضانة، ولو كان الحاضن غير الأب أو لو كانت الحاضنة غير الأم.
وتسليم المحضون إلى الحاضنة المتبرعة، لا يخول الأخيرة منع الأم من رؤية طفلها وتعهده .
إجبار الأم على الحضانة:
إذا أبت أم الولد ذكراً كان أو أنثي حضانته مجاناً ولم يكن له مال وكان أبوه معسراً ولم توجد متبرعة من محارمه تجبر الأم على حضانته وتكون أجرتها ديناً على أبيه. (موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية، للمستشار/ محمد عزمي البكري، دار محمود للنشر، المجلد الثالث، الصفحة 146).
وحيث يتعين أن تتوفر في المتبرعة بالحضانة عدة شروط أولها أن تكون محرماً للصغير وممن لهم الحق في حضانته، وعليه نورد فيما يلي من هم/هن الأحق بحضانة الصغير في القانون؟ وترتيب الحاضنات، وفقاً لما نصت عليه المادة 20 من القانون رقم 25 لسنة 1929 الخاص بأحكام النفقة وبعض مسائل الأحوال الشخصية.
الحضانة تثبت للأقارب من النساء والرجال على الترتيب الآتي:
الأم أحق بالحضانة سواء أكانت متزوجة بالأب أو مطلقة لما روي عن عمر ابن شعيب أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثدي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي .
ولأن الأم أشفق عليه لزيادة اتصاله بها وأقدر على الحضانة بلزومها البيت فكان في التفويض إليها زيادة مرحمة ، وأصبر من الرجل علي تربية الطفل فأولي النساء بحضانة الطفل الأم النسبية متي توافرت فيها شروط الحضانة.
كما روي أن عمر خاصم أم عاصم بين يدي أبي بكر لينزع العاصم منها فقال له ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر.
لكن لا تجبر الأم علي ذلك إذا أبت الحضانة إلا أن لا يكون للصغير ذو رحم سواها فتجبر على حضانته حتى لا يضيع الولد إذ الأجنبية لا شفقة لها عليه، فإذا لم تكن له أم بأن ماتت أو تزوجت بأجنبي فلأم الأم وإن بعدت فإن لم تكن له أم الأم بأن ماتت أو تزوجت بغیر محرم الصغير انتقل حق الحضانة لأم الأب وإن علت وهي أولي من الأخوات لأنها في الأمهات ولأنها أوفر شفقة للولادة، وهكذا علي ترتيب لاحظ فيه المشرع وفرة الشفقة وكمال العاطفة في الحاضنة رعاية لمصلحة الصغير صاحب الحق الأوفر في الحضانة، وليس للرجال حق في حضانة الصغير في هذه المرحلة إلى السابعة من عمره متى وجد من النساء من تحتضنه، ولا يحق لوالد الأطفال أن يحضنهم في هذا السن ولو كان غير متزوج ، كما أنه لا يلزم أم الأم أن تنتقل إلي مسكن الوالد لتقوم بواجب الحضانة، بل إن ذلك غير جائز شرعاً متى كانت أجنبية عنه وغیر محرم له فإذا لم توجد أم الأب بأن ماتت أو تزوجت بغير ذي محرم الصغير انتقل حق الحضانة للأخت الشقيقة، والأخوات أولي من العمات والخالات لأنهن بنات الأبوين ولهذا قدمن في الميراث فإن ماتت أو تزوجت انتقل الحق لأخوات الأم ، فأخوات الأب ، فبنت الأخت الشقيقة، فبنت الأخت لأم الصغير فالخالات ويكون ترتيبهن حسب الترتيب الخاص بالأخوات فبنت الأخت لأب فبنت الأخ بالترتيب المذكور فالعمات بالترتيب المذكور فخالات الأم فخالات الأب فعمات الأم ، فعمات الأب.
فجهة الأم مقدمة على جهة الأب، أما بنات العم وبنات الخال وبنات العمة وبنات الخالة فلا حق لهن في الحضانة.
فإذا لم توجد حاضنة من النساء السابق ذكرهن أو وجدت ولكن ليست أهلاً للحضانة أو انقضت مدة حضانة النساء ففي هذه الحالة تنتقل الحضانة إلي عصبته من الرجال بحسب ترتيب الاستحقاق في الميراث مع مراعاة تقديم الجد الصحيح على الأخوة .
فيقدم الأب، ثم أبو الأب وإن علا ثم الأخ الشقيق فالأخ لأب ، ثم ابن الأخ الشقيق ، ثم ابن الأخ لأب وكذا أبناء أبنائهم وإن سفلوا ثم العم الشقيق ثم العم لأبن ثم ابن العم الشقيق ثم ابن العم لأب بشرط أن يكون المحضون ذکراً فإن كانت أنثى فلا تدفع إلي أبناء العم لأنها ليست محرمة بالنسبة لهم .
فإذا لم يكن للصغيرة إلا أبناء الأعمام فالنظر في ذلك للقاضي فإن شاء دفعها إليهم وإلا دفعها عند امرأة أمينة، كما أنه إذا كان الصغيرة عدة أخوة فإنها تدفع لأصلحهم ديناً وورعاً وهو أحق بها لأن ضمها إليه أنفع لأنها تتخلق بأخلاقه فإن تساووا فأكثرهم سناً أحق بها لأن حقه أسبق ثبوتاً .
فإذا لم يوجد أحد من هؤلاء انتقل الحق في الحضانة إلى محارم الصغير من الرجال غير العصبات على الترتيب التالي :
الجد لأم ثم الأخ لأم فابن الأخ لأم ثم العم ثم الخال الشقيق فالخال لأب ، فالخال لأم. (الموسوعة الشاملة في شرح قانون الأحوال الشخصية والأسرة ، للمستشار/ سيد عبد الرحيم الشيمي ، طبعة 2018 / حيدر جروب للإصدارات القانونية ، الصفحة : 519).
المبحث الثاني
حكم وجود الأجنبية المتبرعة بإرضاع الصغير
نصت المادة 366 من أرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة على أن:
“تتعين الأم لإرضاع ولدها وتجبر عليه فى ثلاث حالات :
(الأولى) إذا لم يكن للولد ولا لأبيه مال يستأجر به مرضعةً ولم توجد متبرعة .
(الثانية) إذا لم يجد الأب من ترضعه غيرها .
(الثالثة) إذا كان الولد لا يقبل ثدى غيرها “. .(كتاب الأحكام الشرعية لمحمد قدري باشا).
الشرح والتعليق:
متى تجب على الأم الرضاعة :
إرضاع الأم ولدها واجب عليها شرعا تجبر على القيام به إذا تعينت له بأن كان ولدها لا يقبل ثدي غيرها ، أو لا توجد من ترضعه سواها ، أو لم يكن للولد ولا لأبيه مال تستأجر به مرضعة ، لقوله تعالى : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) أي يجب عليهن الإرضاع كما في قوله سبحانه : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) أي يجب عليهن التربص.
فإذا لم تتعين أم الطفل لإرضاعه بأن لم توجد حالة من الحالات الثلاث السابقة فلا يجب عليها إرضاعه ولا تجبر على القيام به إذا امتنعت منه، وعلى أبيه في هذه الحالة أن يستأجر مرضعة له وأجرتها عليه في ماله إذا لم يكن للطفل مال لأنها من نفقته والأب ملزم بنفقة ابنه الصغير الفقير. (أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية، على وفق مذهب أبي حنيفة وما عليه العمل بالمحاكم، فضيلة الشيخ/ عبد الوهاب خلاف، دار القلم للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1410 هـ – 1990م، الصفحة 191).
من يلزم بإرضاع الصغير؟
الرأي عند الأحناف أن إرضاع الصغير واجب على الأم ديانة أي أنها تأثم فيما بينها وبين الله تعالى إن تركت إرضاع ولدها من غير عذر مسوغ لذلك، وذلك لقوله تعالى:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)، ولأن الأم أقرب الناس إلى وليدها ينبض قلبها بالحنان والشفقة عليه فوق أن لبنها أفضل غذاء له مما عداه لأنه يلائم جسمه الذي تغذي به وهو جنين في بطنها.
ولكنه ليس واجباً عليها قضاءً، فإذا امتنعت عن الإرضاع بدون عذر فإنها لا تجبر عليه، غير أنه استثني من هذا الأصل حالات ثلاث هي:
الأولى : إذا لم يكن للولد ولا لأبيه مال يستأجر به مرضعة ولم توجد متبرعة بإرضاعه.
الثانية : إذا لم يجد الأب من ترضعه غيرها وإن كان للأب أو الأبن مال.
الثالثة : إذا كان الولد لا يقبل ثدي غيرها.
وإنما أجبرت الأم على الإرضاع في هذه الحالات لأن في عدم إرضاعها للطفل تعريضاً له للهلاك فالأمر يدخل في حيز الضرورة، والمعروف أن الضرورات تبيح المحظورات فأولى أن تلتزم بسببها الأم بإرضاع ولدها الذي تعين عليها إرضاعه إحياءً له.
وفي غير تلك الحالات إن امتنعت الأم بدون عذر ظاهر لا تجبر عليه لأن الإرضاع حق للأم كما هو حق للولد، ولا يجبر أحد على استيفاء حقه إلا إذا وجد ما يقتضي الإجبار عليه وهو المحافظة على حياة الطفل كما في الصور الثلاث السابقة.
ومن جهة أخرى فإن الأم أكثر الناس شفقة وحناناً على ولدها، وهي لا تمتنع عن إرضاعه إلا لعدم قدرتها عليه، فإجبارها حينئذ يلحق الضرر بها، لأنها ستفعل ما لا قدرة لها عليه أو تتضرر به، وقد نفى الله عنها الضرر بسبب ولدها بقوله: (لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا). وفي هذه الحالة يجب على الأب أن يستأجر له مرضعاً تقوم بإرضاعه حفظاً له من الهلاك فإن لم يقم الأب باستئجار المرضع كان للأم أن تطالبه بالقيام بذلك أو يدفع أجر الرضاع إليها لتقوم هی باستئجار المرضع محافظةً على الولد .(موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية، للمستشار/ محمد عزمي البكري، دار محمود للنشر، المجلد الثالث، الصفحة 45)
ونصت المادة 370 من أرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة على أن:
“الأم أحق بإرضاع ولدها بعد العدة ومقدمة على الأجنبية ما لم تطلب أجرةً أكثر منها، ففى هذه الحالة لا يضار الأب، وإن رضيت الأجنبية بإرضاعه مجاناً أو بدون أجرة المثل والأم تطلب أجرة المثل فالأجنبية أحق منها بالإرضاع وترضعه عندها، وللأم أخذ أجرة المثل على الحضانة ما لم تكن المتبرعة محرماً للصغير وتتبرع بحضانته من غير أن تمنع الأم عنه، والأب معسر، فتخير الأم بين إمساكه مجاناً ودفعه للمتبرعة كما هو موضح فى مادة 390” . .(كتاب الأحكام الشرعية لمحمد قدري باشا).
الشرح والتعليق:
أجرة الرضاعة :
وأما إذا أرضعت الطفل أمه بعد انقضاء عدتها من أبيه استحقت أجرة على إرضاعه لأنها انقطعت زوجيتها ولا نفقة لها على أبيه قال تعالى : (وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) والظاهر أن المعتدة التي مضت عليها سنة من تاريخ الطلاق وصارت لا حق لها في المطالبة بنفقة العدة حسب المادة 17 من القانون رقم 25 لسنة 1929 تستحق بعد تمام السنة أجرة الرضاعة لأنها بمنعها من المطالبة بنفقة العدة لمضي سنة صارت مثل التي انقضت عدتها في أنها لا نفقة لها.
وأما إذا أرضعت الطفل غير أمه سواء كانت قريبة له أو أجنبية منه فإنها تستحق الأجرة على إرضاعه فــــــــــــي كل حال. .
وفي الحالة التي تستحق فيها الأم أجرة الرضاع وهي فيما إذا انقضت عدتها تكون هذه الأجرة حقا لها من حين قيامها بالإرضاع ولا يتوقف استحقاقها لها على عقد إجارة مع الأب، وتكون من الديون الصحيحة التي لا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء ولا تسقط بموت الرضيع ولا بموت الأب، ويصح لها أن تصالح أباه على شيء معين تأخذه بدلاً عنها لأن هذه الأجرة المستحقة لها خالص حقها فتصطلح على أخذ بدل عنه كيفما تشاء وعلى الأب أن يؤدى لها البدل الذي اصطلحا عليه.
أما في الحال التي لا تستحق فيها أم الطفل أجرة الرضاع وهي فيما إذا كانت زوجة لأبيه أو معتدته فلا يكون لها حق قبله على إرضاعه وإذا صالحها على بدل لا يصح الصلح ولا يلزم بشيء .
التبرع بالرضاعة :
إذا أبت الأم أن ترضع طفلها إلا بأجر معين ووجدت امرأة قريبة له أو أجنبية منه ترضعه مجاناً أو بأقل من أجر أمه فالمتبرعة أو الراضية بالأجر الأقل أولى لأن الغرض تغذية الطفل بإرضاعه وفي إعطائه للمتبرعة تحقيق هذا الغرض من غير إضرار بالأب بإلزامه أجرة لا تقتضيه ضرورة قال تعالى : (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ) وإذن فالأم تخير بين أن ترضعه تبرعاً أو بالأجر الأقل وبين أن تسلمه للمتبرعة وعلى المتبرعة أن ترضعه عندها حتى لا يفوت عليها حقها في حضانته، ومحل هذا إذا كانت الأم غير متعينة لإرضاعه بأن كان الطفل يقبل ثديها وثدي غيرها .
ومن المقارنة بين التبرع بالرضاعة والتبرع بالحضانة يتبين أن بين أحكامهما فرقاً من وجهين:
الأول: أنه لا فرق في المتبرعة بالرضاعة بين أن تكون قريبة للطفل أو أجنبية منه، وقد اشترطنا في المتبرعة بالحضانة أن تكون من محارم الصغير التي هي أهل لحضانته بحيث إذا كانت المتبرعة بحضانته أجنبية منه أو محرماً فاقدةً شرطاً من شروط الحاضنة لا يلتفت إليها وكأنه لم توجد متبرعة.
والثاني: أنه عند وجود متبرعة بالرضاعة يعطى لها سواء كان للطفل مال أو لا، وسواء كان الأب موسراً أو معسراً . وأما عند وجود متبرعة بالحضانة فلا ينزع من أمه ويعطى لها إلا إذا كان الصغير لا مال له والأب موسر، ومنشأ التفريق أن الغرض من الرضاعة تغذية الطفل وهو يتحقق من الأم كما يتحقق من غيرها قريبة أو أجنبية فلا فرق بين متبرعة وأخرى ولا مبرر لإلزام الصغير أو أبيه بمال لا ضرورة له وأما الحضانة فالغرض منها التربية ممن هي أهل لها وهذه الأهلية لا تكون إلا بالقرابة المحرمية مع استيفاء الشروط فإذا لم تكن المتبرعة فيها هذه الأهلية فات الغرض ولم يتحقق معنى الحضانة، ولا شك أن قيام الأم بهذه التربية خير للطفل من قيام حاضنة أخرى بها فلا يعدل عن خير الطفل إلا لموجب وهو عسر الأب أو عدم إضاعة مال الولد.
وإذا أبت أم الصغير الحضانة إلا بأجر ولا توجد متبرعة من محارمه وليس للصغير مال والأب معسر تجبر الأم على القيام بحضانته وتكون أجرتها ديناً على أبيه، وكذلك الحال في أجرة الرضاعة إذا لم توجد متبرعة وليس للصغير ولأبيه مال. (أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية، على وفق مذهب أبي حنيفة وما عليه العمل بالمحاكم، فضيلة الشيخ/ عبد الوهاب خلاف، دار القلم للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1410 هـ – 1990م، الصفحات 192- 193 – 198 – 199).