تراجع التضخم عالميًّا خلال الأشهر الماضية يرجع إلى ارتفاع أسعار الفائدة، مما ساهم في ثبات بل انعدام معدلات النمو الاقتصادي عالميًّا، في ضوء عدم الاستقرار الذي يشهده العالم، حيث تواصل البنوك المركزية الكبرى تنفيذ سياسات نقدية تقييدية لضمان اقتراب التضخم من المستويات المستهدفة.

من المعروف أن السياسة النقدية، واحدة من السياسات التي يعتمدها صانعو القرارات، في التأثير على النشاط الاقتصادي بهدف كبح التضخم، والمساهمة في تحسن معدل النمو الاقتصادي للبلاد.
تجدر الإشارة إلى أن الأحداث الأخيرة التي شهدها العالم، وصاحبها العديد من الأزمات، بداية من تعطل سلاسل التوريد بعد أزمة كوفيد لعام 2019، ثم أزمة الطاقة والغذاء الناجمة عن الأزمة الروسية الأوكرانية، وأخيرًا الحرب الإسرائيلية على غزة، ساهمت جميعها بشكل كبير في ثبات معدلات النمو بل تراجعها لأقل من المتوسط في أغلب دول العالم، كما يتضح في جدول رقم (1)، حيث يتضح لنا في البداية توقع نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.2% خلال عام 2024 و3.3 خلال عام 2025، وذلك مقارنةً بـ 3.3% عام 2023، في حين شهد اقتصاد الدول المتقدمة صعودًا في معدلات النمو الاقتصادي خلال الفترة المذكورة، حيث ارتفع معدل النمو الاقتصادي من 1.7% في عام 2023 إلى 1.8% في عام 2025، وذلك نتيجة ارتفاع معدل النمو في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ ارتفع إلى 2.6% في عام 2024 مقابل 2.5% عام 2023، إضافة إلى تحسن ملحوظ في معدلات النمو في كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا في عام 2025 مقابل 2023، وذلك لتميز اقتصاد تلك الدول بالتنوع، الأمر الذي ساعدها على جذب مختلف الاستثمارات الأجنبية خلال الفترة المذكورة، مع الحد من التداعيات السلبية من جراء ارتفاع أسعار الطاقة عام 2024، مما ساهم في تحسن معدلات النمو الاقتصادي لاقتصادات الدول المتقدمة، على عكس اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، فبالأرقام نجد أنها شهدت استقرارًا في معدل النمو، حتى وإن ارتفع. لكن بمعدل طفيف للغاية قدره 0.1% في عام 2025، نجد أنه بالرغم من إنذار صندوق النقد الدولي بانخفاض معدل النمو الاقتصادي في دولة الصين لعام 2024 ووصوله إلى 5% مقابل 5.2% في 2023 بانخفاض قدره 0.2%، فإن تلك النظرة التشاؤمية تحولت إلى نظرة إيجابية بشأن أداء الاقتصاد الصيني من جراء مجموعة من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية، الأمر الذي يُساهم بشكل كبيرة في تعديل توقعات النمو الاقتصادي الصيني للعام الجاري.
وبالنظر إلى معدل النمو في الدول النامية منخفضة الدخل، نجد أنه على الرغم من توقع صندوق النقد العالمي وصوله إلى 5.3% في 2025 مقابل 4.4% في 2024. أكد تقرير لجنة النمو، تحت رئاسة الاقتصادي (مايك سبنس)، على حاجة الدول النامية إلى متوسط نمو لا يقل عن 7% لمدة 25 عامًا، حتى تُحقق التقدم المنشود، في ضوء تقرير الأمم المتحدة الذي أقر بمزيد من التدهور للعديد من الدول النامية من جراء الشروط المالية، والحد من الحيز المالي. إضافة إلى الضغوط المتزايدة في ميزان المدفوعات، وعدم القدرة على تحمل المزيد من الديون.
وعلى الرغم مما سبق، فإن معدلات التضخم  عالميًّا سجلت معدلات منخفضة، في ضوء توقعات صندوق النقد الدولي الذي توقع تراجع معدل التضخم إلى 2.1% في 2025 مقابل 4.6% في 2023 للاقتصادات المتقدمة، و6% في 2025 مقابل 8.3% في 2023 للاقتصاد الأسواق الصاعدة والنامية في ظل التطورات التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة، والتي لم تنتهِ تداعياتها إلى الآن. وبالفعل قد رصدت مجموعة من الباحثين المخاطر التي تواجه العالم في الفترات القادمة بشأن انخفاض معدل التضخم في العالم، لا سيما ارتفاع  أسعار الغذاء والطاقة، مما أثار قلقا وحيرة بهذا الشأن.
وعلى خلفية ما سبق، يُمكن القول إن تراجع التضخم عالميًّا يرجع إلى ارتفاع أسعار الفائدة، مما ساهم في ثبات بل انعدام معدلات النمو الاقتصادي عالميًّا في ضوء عدم الاستقرار الذي يشهده العالم، حيث تواصل البنوك المركزية الكبرى تنفيذ سياسات نقدية تقييدية لضمان اقتراب التضخم من المستويات المستهدفة، خاصةً فيما يتعلق بأسعار السلع الأساسية، ولا سيما الغذاء والطاقة. وعليه تستمر آفاق تطورات العرض والطلب على المدى المتوسط تظل غير مؤكدة، مع بقاء العرض بشكل خاص عرضة للتوترات الجيوسياسية.
وفي هذا الصدد، يُمكن تفسير اتجاهات السياسة النقدية التي دفعت إلى انخفاض معدل التضخم المصاحب لانعدام النمو في العالم كما يلي:

الاتجاه الأول: سياسة التوسع الكمي 
قد تلجأ البنوك المركزية إلى سياسة التوسع الكمي، المتمثلة في رفع أسعار الفائدة كسياسة نقدية غير تقليدية لخفض معدل التضخم في البلاد. وقد قرر الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة، بعد أن قرر وقف هذه السياسة عقب الأزمة المالية، حيث اعتمدته الولايات المتحدة خلال الأزمة المالية حتى تفشي أزمة كوفيد-19. وكان الهدف من تطبيق تلك السياسة هو شراء سندات الدين الحكومية المتعثرة، مقابل ضخ السيولة لدعم الاقتصاد. وبالمثل، اتبعت منطقة اليورو هذه السياسة في عهد رئيس البنك المركزي السابق (ماريو دراجي)، حيث اشترت السندات الحكومية المتعثرة وباعتها عن طريق شراء سندات الشركات المتعثرة، وضخ السيولة في السوق لإنعاش الاقتصادات المتعثرة في المنطقة، مما ساهم في تحسن الوضع الاقتصادي إلى حد بعيد.
لكن التأثير السلبي للأزمات التي تعرض لها العالم في الآونة الأخيرة، دفع الاحتياطي الفيدرالي مرة أخرى إلى اعتماد هذه السياسة (سياسة التوسع الكمي) لتقليل الاقتراض، وكانت النتيجة ارتفاع سعر الدولار وانسحاب الاستثمارات المالية، وهو ما كان له تأثير سلبي، لا سيما على الاقتصادات النامية. وبالنظر إلى دول أوروبا فنظرًا لتأثير الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن ارتفاع أسعار الغاز إلى جانب الاضطرابات المناخية الناجمة عن ظواهر تغير المناخ، قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، لا سيما بعد إيقاف تصدير كل من روسيا وأوكرانيا العديد من السلع الغذائية، مثل القمح والذرة، إضافة إلى أسمدة الإنتاج الزراعي، حيث أدت إلى حدوث شلل في بعض الدول التي تعتمد على تلك الصادرات. وعليه اضطرت البنوك المركزية الكبرى إلى رفع تكاليف الاقتراض للحكومات الأوروبية، وعلى هذا أسعار الفائدة. وتماشيًا مع سياسة البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة برفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، لجأت اقتصادات الأسواق الصاعدة والدول النامية إلى نفس النهج، وهو ما اضطر تلك الدول إلى اعتماد أدوات ملائمة لحماية الاستقرار المالي، مع الأخذ في الاعتبار أن افتقار العديد من البلدان -لا سيما منخفضة الدخل- إلى الأموال الكافية، وعليه فإن أسعار الفائدة المرتفعة تفرض سلسلة من التحديات، حيث إن أكثر من 60% من البلدان النامية أصبحت مثقلة بالديون بشكل خطير وتواجه مخاطر كبيرة تهدد اقتصاداتها.

الاتجاه الثاني: الانضباط المالي 
قد يلجأ البنك المركزي إلى سياسة الانضباط المالي كوسيلة من وسائل السياسة النقدية التي تعتمدها البنوك المركزية لخفض التضخم، حيث ترفع أسعار الفائدة للحد من الطلب واحتواء التضخم الذي طال الكثير من الدول، لا سيما الدول النامية، مع الأخذ في الاعتبار أن أسعار السلع أصبحت سريعة ومكلفة لكثير من المجتمعات، خاصة مع الدول التي تُعاني من قفزة الدولار.
وتأسيسًا على ما سبق، من المتوقع حدوث أزمة اقتصادية في المستقبل، مع استمرار ارتفاع أسعار الفائدة باختلاف حدتها من دولة إلى دولة أخرى، لا سيما الدول النامية منخفضة الدخل.
وفي هذا الصدد، يُمكن القول إن فعالية السياسة النقدية في الاستجابة للآثار السلبية للتضخم قد تعتمد على النهج الذي تتبعه البنوك المركزية، ومدى قدرته في التأثير على النشاط الاقتصادي للبلاد، مما يكون لها تأثير فعال في تحقيق أهدافها المرجوة.
وعليه، يُمكن القول إن اتجاهات السياسة النقدية في العالم، قد أدت إلى حدوث ضرر للعديد من الدول، في حين لم تشعر بعض الدول بأي تداعيات، ولمواجهة هذا -وفقًا للمدرسة الفكرية الكينزية الحديثة- لا بد من التنبؤ بتأثيرات السياسة النقدية المباشرة وغير المباشرة بواسطة اتجاهات المستهلكين لشراء سلع معينة عندما ترتفع أسعار الفائدة. أما التنبؤ بالتأثيرات غير المباشرة، فيعتمد على الميل الحدي للاستهلاك، فهو مقياس للإنفاق والادخار الإضافيين إلى دخل الأسرة، أي أنه بالإضافة إلى هيكل السوق واحتكاكاته، تحتاج البنوك المركزية إلى فهم شامل للميل الحدي للاستهلاك، وتوزيع مصادر الدخل، إضافة إلى المؤسسات التي تُساهم بشكل أساسي في تلك الظروف، مثل: الحكومة المحلية والنقابات العمالية والهيئات التنظيمية، ويجب على البنوك المركزية أيضًا أن تأخذ في الاعتبار أن تأثير السياسة النقدية متباين، وجدير بالذكر هنا ارتباط قناة إعادة التوزيع بالتأثير الكمي على الاقتصاد الكلي، فكلما كانت قناة إعادة التوزيع أكثر فعالية في تحويل الموارد من الأسر ذات الاستهلاك المنخفض إلى الأسر ذات الاستهلاك المرتفع، زاد التأثير الكلي للسياسة النقدية. ويصبح هذا التأثير أكثر وضوحًا في البلدان النامية، وبحسب النموذج  الكينزي الحديث، فإن الجمع بين السياسة المالية والسياسة النقدية أمر بالغ الأهمية، فعندما يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة، ترتفع تكاليف الاقتراض على وزارة الخزانة، وهذا يضطر الدولة إلى زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق، سواء الآن أو في المستقبل. وتتجلى أهمية البصمة المالية للسياسة النقدية في تحقيق المزيد من إعادة التوزيع. ويساعد ذلك في تخفيف الصدمات أو تضخيمها، اعتمادًا على ما إذا كان يحول الموارد من المدخرين إلى المنفقين أو العكس. وعلى المدى القصير، كلما كان ارتفاع الديون المستحقة على الحكومة له أهمية كبيرة في تعزيز النمو الاقتصادي، والحفاظ على استقرار الأسعار، والتغلب على العقبات التي تعترض الاستقرار الاقتصادي.

وختامًا، يُمكن القول إن اتجاهات السياسة النقدية غير ملائمة، خاصة مع التداعيات السلبية، سواء المباشرة أو غير المباشرة التي خلفتها الأحداث الأخيرة، مما زادت من حِدة الضغوط التضخمية وقسوة الأوضاع المالية، بل الزعزعة في بنية الاقتصاد، ثم عدم استقرار النمو الاقتصادي، خاصةً في الدول منخفضة الدخل، وعليه لا بد من اتخاذ كافة الإجراءات الحاسمة التي تعمل على الاستقرار السعري على الأقل في المدى المتوسط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *